افتقدتُ لندن منذ فترة طويلة، وعلى الرغم من طول فترة البعد عن مدينة الضباب إلا أنها لم تتغير، كالعادة، يبدو ان العاصمة البريطانية عصية على تقلبات الزمن، شوارعها تقاوم الحداثة وتصر على التمسك بتفاصيل الزمن الجميل، عندما كانت لندن عاصمة لإمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ولكنها في النهاية غابت.
ما زلت مصرّا على التمسك بهوايتي العتيدة، العنيدة، المشي ليلا في تلك الشوارع القديمة والتاريخية لساعات، هذه المرة تحت رذاذ المطر الخفيف المنعش، من النوع الذي اعشق، مثل تلك الأجواء تساعد وتشجع على المشي لساعات من دون تملل او تعب، تتقافز عيناي من تلك الشرفة الى تلك الشرفة، أتمعن في أسماء الشوارع الانجليزية القديمة أستمتع بتلك المناظر التي اشتقت إليها ولطالما تمنيت الرجوع اليها، أكاد أجزم ان هذه الشوارع تحت المطر لها روائح تميزها عن بعضها البعض.
على طاري الشوارع، ألاحظ وأنا أسير وسط لندن، وعلى قدم تلك الأرصفة والأزقة، تلاحظ نظافة تلك الشوارع وسلامة هندستها، من دون حفر او تكسير للارصفة، من دون حصى متطاير او متكدس، نظام البلدية هناك منظم جدا ودقيق جدا في مواعيد العمل، من الغريب جدا ان مواطنا عربيا قادما من دولة نفطية غنية يكون في حيرة من نوعية الأسفلت المستخدم هناك وكأن المسألة فيها إعجاز معين او سر عسكري، لا تكاد ترى أي غلطة في تلك الشوارع، السيارات تسير بكل أريحية وسلاسة على الأسفلت، لا سيارات تصاب من الحصى ولا عجلات تعطب من الحفر ولا احد يغرق بمياه الأمطار على الرغم من كثرتها طبعا.
لا إعجاز هندسيا ولا أي شيء، المسألة كما رأيتها بعيني، شوية ذمة وإخلاص في العمل، حولت شوارع لندن على قدمها كأنها لوحة فنان بعبق كلاسيكي، تكسب العاصمة صورة حضارية محترمة وانطباعا أوليا يستقبل الزائر بصورة جميلة، يسمونه تسويق المدن على ما أذكر، جعل العاصمة icon أو مرآة لتحضر الشعوب وعراقة الدولة، هل يستحيل عمل هذا الأمر هنا بالكويت؟ لا اعتقد، ولكن بالطبع ليس بهذا المستوى من نظم البلدية والإدارة التي عندنا، واكيد ليس بهذا القدر من الحفر والحصى، والختام سلام.