دائماً ناصر يذكرني أيام الخمسينيات يوم كان الخال يحشرنا جميعا معه في سيارته «الكدلك»، كما نسميها، نحن «يهال» العائلة في كشتة، وعندما نصل إلى بوابة الشامية نصفق ونردد بابتهاج: «طلعنا من باب السور، بيرقنا بيرق منصور»!
ناصر الذي كنا نناديه «نصور» أيام طفولتنا وصبانا، ومعنا فاضل الصايغ وشقيقه الشهيد الطيار أمير، رحمه الله، في عطلات المدرسة، أذكره أيام شقاوتنا مع المهرة (من بلدة مهرة اليمنية) ننغزهم وهم في غفلة من بيعهم في سكة بن دعيج قرب دكاكيننا، فنضحك ملء أشداقنا وهم يقفزون صارخين «محييييس!» ولا نعرف معناها.
في مشيتنا إلى بخار (مخزن) العائلة في سوق التجار (الداخلي)، ونعرج إلى مولات الكويت القديمة: أسواق المعجل والمباركية والغربلي، نتشاقى ببراءة دون ان نعرف غزل البنات في سوق البنات المطل على سوق اللحم ثم الدهن.
في صحبتنا الى بحر السيف قرب فرضة الخضار والفواكه القديمة، نفرح عندما نسير على لوح الخشب للعبور الى داخل الابوام (نوع من السفن) نتنقل بينها، وروائح طبخ غداء البحارة يملأ انوفنا جوعا!
ذهبنا الى السينما نبحث عن أفلام «الطق» وأفلام «الوحش المدمر» و«الطرزان» ولا نطيق أفلام الغناوي والمسخرة! لكنه كان يأخذ بيدي الى مسجد الصحاف عندما ينادي المؤذن ملا احمد الصفار بصوته الخاشع!
كان ناصر الولد المدلل حتى ألبسوه البشت في صغره، بينما انا امتشقت سلاح الحرس الوطني، فلما كبرنا، تبادلنا الأدوار، ناصر حمل سلاح الجيش الكويتي، بينما أنا لبست بشت الوزارة!
رغم انه ابن تاجر ابن تجار، والتحق بالمدرسة التجارية القديمة في شارع الجهرة (فهد السالم حاليا) لكن حلمه أن يحمل بيرق ديرته الكويت، فالتحق بالقوة الجوية الكويتية، وقد قدر الله ان يتم أسره هو وشقيقيه المقدم عدنان والمقدم الشهيد طالب، يقول احد رفقائه في السلاح عن ظروفهم في معتقل بعقوبة بالعراق «كان الفقيد الرائد ناصر احد ضباط صيانة هياكل الطائرات في قاعدة احمد الجابر الجوية، بعد تخرجه من دراسته من أميركا، وكان ذا أخلاق عالية، وملتزما دينيا، يتهجد في الليل فيدعو الله أن يحفظ الكويت وأهلها.
وكان يهون لوعة الأسر في نفوس رفقائه، ويقوم لخدمتهم والابتسامة لا تفارقه، فأحبه الجميع، ليحزنوا عليه اليوم أشد الحزن».
وكان حال أبوهم الخال الحاج محمد، رحمه الله، هو لسان نبي الله يعقوب عليه السلام (فصبر جميل عسى الله ان يأتيني بهم جميعا). حتى اذا ما لاحت تباشير تحرير الكويت عاد ناصر يحمل بيرق النصر مع أشقائه ورفقائه في السلاح. واستمر في عمله قبل أن يتقاعد عام 2009 برتبة عميد.
له قصة وحكاية مع كل من عرفه، تجمعها دماثة أخلاقه ونبل مواقفه وحسن معشره، كان نصوحا خدوما سمته التواضع. تخصص مؤخرا في معرفة الأحجار الكريمة وجمعها والتجارة بها. مغرم بالأكل الصحي والأعشاب والثقافة الدوائية.
وكان يحرص على زيارة بيت الله الحرام والمدينة المنورة وزيارة أضرحة الائمة الاطهار عليهم السلام، قد ختمها بزيارة الإمام الحسين عليه السلام في الأربعين الأخيرة!
ومن توفيق الله ان اكتب هذه المقالة في النجف الأشرف، وفي مواجهتي القبة الذهبية لمرقد أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، وفيما حولي مدارس ومكاتب الحوزات العلمية للمراجع الدينية الكرام. وعلى جهة يميني مقبرة السلام، حيث يرقد المرحوم ناصر محمد الصالح. وهكذا تم عروج ناصر الى واهب النصر. وكفى بالله وليا وكفى بالله ناصرا ونصيرا.
[email protected]