شبلي الشميّل
«إلى طلعت بك ناظر داخلية الحكومة التركية،
عدل القضاء في زمان دولتكم مرة واحدة، فانتقمتم للظلم من العدل ونفيتم القاضي العادل إلى سيواس، فيا ويلكم ويا ويل أنفسنا منكم».
مزودا بمعرفة قانونية نهضوية، وبروح جسورة متوثبة، وفي حقبة تاريخية عصيبة، واجه القاضي سعيد زين الدين عنت سلطة سياسية متعجرفة تظن أن القضاء إحدى مناطق نفوذها وأدوات نظامها رافضا المساومة على قناعاته المهنية والأخلاقية، ولو كلفه الأمر النفي إلى أقاصي الأناضول، موحيا أن مهنة القاضي أقرب إلى مفهوم الرسالة منها إلى مفهوم الوظيفة.
وبما أن مفهوم العدالة لا يتجزأ وليس مقصورا على قوس المحكمة، تبنى سعيد زين الدين مشروع ابنته نظيرة زين الدين (مؤلفة كتابي السفور والحجاب 1928 والفتاة والشيوخ 1929)، الآيل إلى نزع النقاب عن وجوه النساء، وإلى وضع حد لإغفال وجودهن ونفيهن داخل عادات ومعتقدات عتيقة مغلوطة، خائضا معها معركة معرفية واجتماعية قاسية، مدركا أن عنت الجماعة يضاهي عنت السلطة النافذة ويحاكيها.
في عدم قصره مفهوم العدالة والحق والديمقراطية على حل النزاعات البينة الظاهرة للعيان والمنوطة بالقضاء، وربطه بين القوانين المكتوبة وتلك الشفهية التي تكاد تكون أمضى وأشمل من المكتوبة لتعلقها بكينونة الأفراد في كل دقائقها وتفاعلاتها، يقوم سعيد زين الدين، وفي حركة جدلية متناغمة، بنزع النقاب عن السلطة المتعسفة والمستبدة واللاغية لمفهوم الحق، وعن وجوه النساء المنتقبات قسرا في آن معا، متنكرا للأفكار والتمثلات العتيقة المتوارثة التي تديم، تحت ذرائع متنوعة، هيمنة الرجال على النساء مفضية إلى عزل النساء عن المجال العام وعن دورة الحياة الحية النابضة.
لعل الاعتقاد السائد بأن رجال السياسة والحرب هم وحدهم الذين يصنعون التاريخ ويؤثرون على الحدث دون القوى الاجتماعية الأخرى ودون فاعلين اجتماعيين آخرين، منهم القضاة، هو مكمن الخلل.
لذلك يرسم هذا الكتاب مسار سعيد زين الدين الشخصي والمهني، باحثا في الخلفية التاريخية والثقافية التي صقلت شخصيته، مستعيدا مناخات تلك المرحلة السياسية والثقافية والإعلامية التي لعبت دورا في احتضان مساره القضائي النضالي الفريد، وكذلك نضاله المزدوج من أجل ترسيخ مفهوم الحق في العام والخاص.