- الروزنامة لفظ يطلق على دفتر القيد اليومي أو اليوميات في اللغتين الفارسية والتركية
- نصوص السجلات الملاحية للربان عيسى العثمان تمثل امتداداً لتراث عربي أصيل
- التقانة الملاحية والخرائط التي استخدمها الأوروبيون بدأت تنتقل عن طريق الأثر والتأثير في المجال الملاحي
- السفن الشراعية لعبت دوراً مهماً في الحرب العالمية الثانية بسبب انقطاع السفن البخارية عن ارتياد بلدان الخليج
نظرا لدور البحر في حياة الكويتيين قديما، وتأكيدا لدور النواخذة من الآباء والأجداد الذين ركبوا البحر بسفنهم المختلفة حاملين على متنها أنواعا متعددة من البضائع من وإلى الكويت، فقد حرص الأستاذ المشارك في كلية التربية الأساسية - الهيئة العامة للتعليم التطبيقي د.نواف عبدالعزيز الجحمة على إعداد دراسة تناول فيها أهمية الروزنامة تحت عنوان «قراءة في روزنامات بحرية كويتية.. روزنامة النوخذة عيسى العثمان نموذجا»، استند فيها إلى العديد من المراجع المتخصصة لباحثين وكتاب مشهود لهم بالكفاءة والأمانة في التوثيق التاريخي، كما أرفق الدراسة بعدد من الخرائط والصور والأشكال التي صورها عن الأصول لها.
وقد استطاع د.الجحمة وبأسلوب مميز أن يقدم للقارئ ضمن هذه القراءة كمية من المعلومات الشاملة حول الروزنامة البحرية وأهميتها وبشكل توثيقي يجعل منها مصدرا للمهتمين والباحثين، ومرجعا تاريخيا ليتعرف الأبناء على بعض من طبيعة حياة الأجداد ونشاطهم البحري.
وقال د.الجحمة في مدخل قراءته لروزنامة النوخذة عيسى عبدالله العثمان:
تشكل الروزنامة (دفتر القيد اليومي) إحدى أبرز الوثائق التي تكشف جوانب من الملاحة البحرية التقليدية في الخليج العربي، فعلى الرغم من أن الصبغة الملاحية طاغية على مضامينها، وهو أمر طبيعي، إلا أنها احتوت على مجموعة من المعلومات والمعطيات جد قيمة.
إن نصوص السجلات الملاحية التقليدية للربان عيسى العثمان تمثل امتدادا لتراث بحري عربي أصيل، فضلا عن وجود تقليد قديم بشأن الكتابة عن مسالك الملاحة، وبعض النصوص المتأتية من هذه السجلات تنتمي بصورة أو بأخرى الى مجموعة المرشدات البحرية (الراهنامجات) التي كان الربابنة العرب يهتمون كثيرا بتسجيلها مثل: «الفوائد في أصول علم البحر والقواعد لابن ماجد»، و«العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية» لسليمان المهري في القرن 15م، ظلت تتمتع بصيت لدى النخبة الخليجية (1).
وتجدر الإشارة الى انه حصل تغيير في فنون الملاحة القديمة وتطورها إبان دخول السفن الأوروبية الى بحر العرب وعالم المحيط الهندي في تاريخنا الحديث والمعاصر، فالتقانة الملاحية والخرائط التي استخدامها الأوروبيون بدأت تنتقل عن طريق التأثر والتأثير في المجال الملاحي عن طريق ساحل الهند الغربي وساحل عمان واليمن عبر بحر العرب، ولكن لا يعرف على وجه التحديد تاريخ ذلك التغيير على حد قول الأستاذ عبدالله الغنيم (2).
وقد تكاثرت «الروزنامات» البحرية المخطوطة خلال القرنين 19، 20 الميلاديين، غير ان الإهمال ظل يطوي معظمها وبعضها لا نعلم عنه إلا نتفا من خلال نقول وإشارات، واستمر غياب هذا الاهتمام بها وقتا طويلا إلى أن نشر الأستاذ يعقوب الحجي العديد من الروزنامات البحرية في (2004/2006م).
وكان الأستاذ يعقوب الحجي قد لفت الانتباه إلى قيمة هذا النوع من الكتابة حينما قدم عرضا في كل «روزنامة» منشورة من قبل مركز البحوث والدراسات الكويتية، لكن العناية بهذا النوع من الكتابة بقيت محدودة جدا، وقد حاولنا بدورنا خوض تجربة استغلال وتوظيف المادة المتنوعة التي تتضمنتها «الروزنامات» البحرية الكويتية (روزنامة النوخذة عيسى العثمان نموذجا).
ولقد تبين لنا من خلال قراءة «روزنامة» النوخذة عيسى العثمان ان أهمية هذه الأسفار تكمن في خصوصية المرحلة التي تمت فيها إبان «الحرب العالمية الثانية» وفي تعدد وتنوع المواضيع فيها، ولو بإيجاز بمثال يعكس صورة صاحبها ونوعية الأمور التي جلبت اهتمامه أثناء الأسفار.
تقديم «الروزنامة» البحرية
1- صاحب «الروزنامة»
مؤلفها هو النوخذة (الربان) عيسى عبدالله العثمان، يرجع أصله الى منطقة السدير في نجد، وقد ولد في عام 1923م ـ درس القرآن والحساب صغيرا على يد الشيخ مرشد، وقد امتهن أصول الملاحة وحرفة النوخذة في السفرة الخامسة في سنة 1941م، حيث تسلم قيادة سفينة والده البوم (فتح كريم) (3). ولعل ما يميز هذه الرحلة انها عبارة عن رحلتين في الموسم الواحد (4)، ولقد تركت هذه الرحلة أكبر الأثر في نفس النوخذة العثمان حيث شجعته على المضي في هذه الحرفة حتى أواخر سنوات السفر الشراعي الكويتي في سنة 1951م.
2- التعريف بـ «الروزنامة»
يطلق لفظ «روزنامة» على دفتر القيد اليومي أو اليوميات في اللغتين الفارسية والتركية، وفيه يتم تسجيل الأحداث أو المشاهدات العامة أولا بأول (5)، وقد استخدم الربابنة الكويتيون (النواخذة القدامى) الروزنامة بكثرة، إذ يدون في سجل خاص، أهم أحداث رحلاته البحرية، وتفاصيل الحياة على سطح السفينة ـ منذ بداية السفر الى نهايته، وتسجل تلك الدفاتر اليومية أيضا قياس سير السفينة وتحديد جهتها بناء على تحديد موقعها في عرض البحر وذلك بالأدوات التي يستندون إليها مثل : النالية (الخريطة الملاحية) chronometer وكذلك الديرة (البوصلة)، وجهاز الكمال sextant (6).
تفتتح الروزنامة عادة بذكر تاريخ اليوم الهجري والميلادي، وكذلك النيروز الهندي الذي يمثل 365 يوما ابتداء من الأسبوع الأول أو الثاني من شهر أغسطس من كل عام (7). وقد يذكر النوخذة الأبراج المعروفة في «روزنامة» مثل الدلو والقوس وغيرها من الأبراج، كما يستهل النوخذة سجله اليومي في كل يوم بعبارة «بسم الله، أصبحنا على خير» ويختمها «الله يسهل الأمور»، ثم يذكر ما تم القيام به وهو يستخدم التوقيت العربي.
هذا ويصاحب «الروزنامة» دفتر للقياسات التي يجريها النوخذة منذ ان تترك السفينة الشراعية أحد موانئ الهند الغربية وحتى اليابسة على الساحل العماني عبر بحر العرب (8)، هذا بالإضافة الى دفتر خاص بحسابات البحارة وما يقدم لهم من مبالغ وهو ما يعرف بـ «السلفة»، في مختلف الموانئ وحتى نهاية الرحلة، وإلى جانب ذلك هناك دفتر خاص بحساب مصاريف السفينة (9)، وخلال تلك الرحلة البحرية تكون المسؤولية والقيادة بيد النوخذة (الربان) وعادة ما يكون النوخذة من عائلة ظهرت فيها هذه الحرفة، فالنوخذة موصوف بالذكاء الفطري والإلمام المعرفي بالحساب ومسك الدفاتر، وهذا مطلوب لمعرفة قواعد المجاري البحرية وأنواع الرياح وغيرها من ضروريات الملاحة التقليدية (10).
كما لعب المعالمة (جمع معلم) دورا كبيرا في مساعدة النوخذة للعبور من ساحل الهند الغربي الى ساحل عمان عبر بحر العرب (عبور الغبة)، فالمعالمة أجدر الملاحين في استخدام جهاز (الكمال)، لذا لابد من الاستعانة بهم في هذا المجال، أما إذا لم يتوافر المعلم فإن هذا النوخذة يضطر للبحث عن نوخذة يحسن قياس مواقعه في البحر، ويطلق عليه (سنجار) (11)، يبدو أن أكثر المعالمة من الهنود لمعرفتهم القديمة ولأصالتهم في المجال الملاحي.
والجدير بالذكر ان أغلب النواخذة القدامى من النواخذة المعالمة، وذلك لأنهم أجادوا استخدام آلة (الكمال)، وقراءة جداول كتاب (المناك) (12)، وإذا لم يتوافر، فإنهم يستخدمون عادة كتاب (النوري) على حد قول المحقق يعقوب الحجي، ناهيك عن الدراية في قراءة الديرة (البوصلة) ومعرفة نجومها (13).
مسار الرحلات
ومحطاتها الأساسية
ارتأيت أن أضع لهذه الرحلات خرائط توضح مسارها وأهم محطاتها، وذلك إيمانا مني بأن ربط الأحداث بمواطنها هو الذي يعطيها هويتها ويساعد على فهمها (انظر الملحق).
1- الرحلة إلى موانئ الهند الغربي
نبدأ رحلة السفر الأولى من الكويت إلى شط العرب، حيث تعتمد رحلة السفينة الشراعية الكويتية (14) الى ساحل الهند الغربي (15) على موسم نضج التمور (16) في شط العرب (17)، وعلى الرياح الموسمية التي تبدأ في شهر أكتوبر، وهذه رياح تهب على بحر العرب وغرب المحيط الهندي (18) ولهذا يفضل النوخذة الانتظار في شط العرب حتى تهب هذه الرياح ثم تبحر السفينة في الخليج على طول ساحل فارس جنوبا حتى مضيق هرمز.
وما أن تخرج السفينة من مضيق هرمز حتى تستمر في الإبحار إما إلى مسقط أو إلى اليمن أو إلى ساحل مكران شرقا (بلوشستان) حتى تصل إلى كراتشي (19) أو بمبي أو غيرها من الموانئ على ساحل الهند الغربي، وبطبيعة الحال وقبل ان تصل السفينة الى كراتشي تمر بالقرب من العديد من الموانئ المنتشرة على ساحل مكران.
وحين الوصول الى كراتشي يبيع النوخذة ما عنده من تمر إذا كان السوق رائجا أو يتجه الى ميناء خورميان أو ميناء براوه ثم إلى بمبي حيث يبيع معظم ما عنده من التمر، وأحيانا يذهب الى ميناء كاليكوت للهدف نفسه، أما قيمة بيع التمر في الهند فإنها تدخل في حساب التاجر عند الدلال أو الوكيل المعتمد لديه في بمبي أو في غيرها من الموانئ.
وفي الوقت ذاته، يبحث النوخذة عن بضائع ينقلها ما بين الموانئ الهندية فإذا لم يجد شيئا قام بشحن سفينته بكمية من الملح الطبيعي (20) من بمبي الى ميناء كاليكوت، وهناك ينزل الملح ولتشحن سفينته بالأخشاب والصبار وبغيرها من اللوازم، وتقفل عائدة الى الكويت عبر بحر العرب (الغبة) من بومبي الى بحر الأشاخر العماني بعد أسبوعين من الإبحار في بحر العرب، ومما يثير الانتباه في النشاطات التجارية بين الكويت وموانئ الهند الغربي، هو الطلب المتزايد على كافة أنواع التمور العراقية (21) إبان الحرب العالمية الثانية، ويذكر ان كميات ضخمة من التمور كانت تنقل من البصرة بالبواخر الكبيرة الى الهند (22)، وبعد أيام من الإبحار داخل خليج عمان، وبالقرب من مدخل الخليج (مضيق هرمز) تبحر السفينة بالقرب من ساحل فارس حتى جزيرة خرج ثم تتجه في مجراها غربا حتى تلوح لها جزيرة (عوهة) أو (فيلكا) ومنها تدخل جون الكويت (23)، تعتبر هذه الرحلة انموذجا لرحلات الهند الغربي التي قام بها النوخذة العثمان في سنة 1937م مرصودة ومتتبعة من الكويت إلى الهند الغربي والعودة منها، اعتمادا على روزنامة النوخذة نفسه.
2- رحلة من الهند إلى موانئ شرق أفريقيا
بعد اكتمال إنزال التمور في بمبي وإنجاز بعض الأعمال تتوجه السفينة إلى ميناء «منكلور» بدلا من «كاليكوت» وذلك من أجل الحصول على (نول) لشحن آلاف من ألواح القرميد (= الكبريل)، حيث كان الطلب متزايدا على هذه البضاعة التي تستخدم عادة لتغطية أسقف المنازل، وتترك السفينة بندر منكلور، وتبدأ رحلة العودة عبر المحيط حتى يلوح لها ساحل الصومال الشرقي (24)، بالقرب من جبل السيف والهراب بعد رحلة تستغرق أسبوعين تقريبا في عرض المحيط، وهذه رحلة لا يقوم بها إلا «النوخذة المعلم» الذي يحدد موقع السفينة في كل يوم على الخريطة، كان النوخذة عيسي العثمان بمرافقة سنجار (25) في تلك الرحلة، فهي أول رحلة له يعبر فيها من ساحل الهند الغربي الى ساحل أفريقيا الشرقية في (1947م)، لذا لا تخلو الرحلة من صعوبات جمة.
هذا وتواصل السفينة إبحارها جنوبا على طول الساحل الأفريقي الشرقي حتى ميناء «ممباسا» حيث تنزل حمولتها من القرميد، ثم الإبحار جنوبا الى جزيرة زنجبار وهذه رحلة قصيرة تبدأ نهارا من ممباسا حيث تسير السفينة ليلا على طول الساحل الكيني والتنزاني جنوبا حتى تصل الى ميناء زنجبار (26).
وحين تصل السفينة الى الميناء، يستعد النوخذة لرحلة دلتا نهر (الروفيجي) ـ (مواطن مزارع الجندل) لشراء أعمدة الجندل التي كانت تستخدم في بناء السقوف في منازل الكويت وباقي دول الخليج، وفي خور صلالة مكثوا حوالي الشهر في ذلك المكان الخطر حتى أتموا شحن سفينتهم بالأعمدة ثم أبحروا بها الى زنجبار ومنها أبحروا شمالا على طول الساحل الأفريقي الشرقي وبالقرب منه، ثم على طول الساحل العماني وحتى ميناء مسقط، وهنا يلتقي أسطول السفن القادم من الهند بالأسطول القادم من السواحل ويصبح ميناء مطرح العماني مكتظا بالسفن، وبعد أيام تعاود السفينة الإبحار الى البحرين محاولين إيجاد سوق طيب لبيع أعمدة الجندل، وإلا استمر في الإبحار به حتى الكويت فيبيعه فيها، وبذلك تنتهي رحلة السواحل الأفريقية (27).
ملاحظات واستنتاجات:
1 - أولى عيسى العثمان اهتماما بقواعد المجاري البحرية، وهذا ما يستفاد من خلال المعلومات التي دونها والمتعلقة بعالم المحيط الهندي. لقد رسم عيسى العثمان وبصورة دقيقة الخط البحري الذي تسلكه السفينة المتجهة من شط العرب الى موانئ الهند الغربي، او من الهند الغربي الى السواحل الافريقية، ولقد تحدث عن الموانئ التي تتوقف بها السفينة اما للإفراغ او الشحن او للتزود بالماء والمؤن، ان المعلومات التي يقدمها بهذا الخصوص تعتبر جد هامة ولا غنى عنها بالنسبة للباحث في تأريخ الملاحة البحرية خلال النصف الأول من القرن العشرين.
2 - قاسى النوخذة والبحارة كثيرا من الشدائد والمحن على طول الطريق ذهابا وإيابا خصوصا في الطريق البحري من الهند الغربي الى ساحل افريقيا الشرقي، فقد عانوا من الظروف الطقسية القاسية، وتعرضوا للقتل من طرف المسلحين في الموانئ الخارجة عن السيطرة المركزية (مرفأ رأس الحافون الصومالي نموذجا).
3 - تباينت مدة الإقامة بالمحطات الأساسية وهذا راجع الى عدة عوامل نذكر منها:
أ - الحاجة الى الراحة خصوصا بعد وقبل المراحل المرهقة وبانتظار الرياح المواتية لحركة السفن.
ب - تباين اهمية المحطات من الناحية التجارية، ذلك ان قضاء الحاجيات من بيع وشراء كان يتم في المحطات الأساسية مثل (بومبي، كاليكوت، بنكلور) في الهند الغربي، (مماسا، زنجبار وغيرها) في افريقيا الشرقي.
4 - كثيرا ما تلجأ السفن الكويتية الى الجزر الفارسية مثل جزيرة «خرج» و«كيش» للاحتماء فيها حتى تهدأ العواصف، وكمحطات لملأ خزانات السفن بالماء العذب والمواد الغذائية.
5 - من خلال العرض والطلب نستطيع ان ندرك حاجات كل مدينة او مرفأ، كما كانت حركة السفن الشراعية الكويتية في ازدياد ابان الحرب العالمية الثانية.
6 - ادرك النوخذة العثمان وهو في ميناء كراتشي هيمنة حكومة الهند البريطانية على موانئ الهند الغربي، فهو يذكر طلب حكومة الهند البريطانية من السفن الشراعية في كراتشي ايصال شحنات من المواد الغذائية الى اماكن على طول ساحل الهند الغربي.
المشاهدات والوقائع البحرية:
بالنسبة للمشاهدات فقد تم التركيز فيها بالخصوص على وصف الصعوبات والأخطار التي تواجه البحارة، كوصف الحوادث والنكبات البحرية يفسر هذا ان النوخذة العثمان لم يفته الاشارة في ثنايا رحلته الى ما تعرض له وغيره من صعوبات خلال تنقله بين الكويت والهند من جهة وبعد مغادرته للهند في اتجاه السواحل الافريقية من جهة ثانية. وقد حرص العثمان على نقل اخبار هذه الحوادث في عرض البحر في اسلوب قصصي يجمع بين اللهجة المحلية والإثارة، مما يجعل القارئ يخرج بانطباع مفاده ان التردد على موانئ الهند الغربي لا يخلو من مخاطر بحرية.
تبدأ قصة العثمان مع البحر منذ رحلته بصفته معلما مع والده في سفينة (فتح الكريم) عام 1940م، حيث هبت عليهم عاصفة وهاج البحر، وكان بالقرب منهم نوخذة يدعى (ابو البنات) لم يستطع ان ينقذ سفينته فغرق هو وبحارته، وذلك بعد خروجهم من مطرح العماني الى الخليج وبالقرب من جزيرة سلامة (ساحل فارس) (28).
وقد تعرضت سفينة النوخذة عيسى العثمان الى الكثير من المشاكل نتيجة للأمواج العاتية والرياح الشديدة التي تواجهها في الطرق البحرية، وقد ادى ذلك الى عطب بعض الاجزاء مثل كسر الصاري او انقطاع الحبل او تشقق الاشرعة (29) وقد يضطر النوخذة اذا داهم الخطر السفينة جراء العواصف الشديدة الى القاء جزء من الحمولة في البحر تجنبا لغرق السفينة (30) وهنا يفقد النوخذة وبقية البحارة اجرتهم على البضائع التي تم التخلص منها حسب قانون البحر.
كما يقص النوخذة عيسى العثمان من خلال رحلاته الشراعية اشهر حوادث الغرق (الطباعات) السفن الكويتية لنواخذة آخرين كانوا يقودون سفنا شراعية الى الهند وأفريقيا في هذه المدة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: «طبعة النوخذة بلال الصقر كما رواها البحار مبارك المجبيل احد الناجين منها 1943 (31)، وطبعة فهد بن موسى كما رواها راشد الفهد 1943 (32)، وطبعة عبدالكريم ولد غيث 1945، وطبعة عبدالله بهمن 1947 كما رواها لنا النوخذة عيسى العثمان 1945 (33)، وآخرها طبعة بوقماز كما رواها سليمان المهيني 1956 (34).
إن ما حصل للنواخذة البحارة من حوادث ونكبات بحرية يؤكد فعلا هذا المشهد الدرامي، ذلك اننا وجدنا سفنا تغوص في اعماق البحر، وعدة حالات غرق لا حصر لها، وما حصل للنواخذة في مشرق النكبات البحرية في التاريخ المعاصر حصل لعدد من الشخصيات التاريخية من اهل الغرب الاسلامي في تاريخ العصر الوسيط (35).
من جانب آخر - من خلال روزنامة عيسى العثمان عرفنا الوقائع والظروف السياسية السائدة في الخليج وبحر العرب وغرب المحيط الهندي خلال الحرب العالمية الثانية، فقد ذكر النوخذة العثمان انه عاين غواصة المانية على سطح البحر وشاهد مدافعها مصوبة نحو سفينته وعندئذ رفع الاعلام البيضاء بغية السلامة، لكنه اوضح في الوقت نفسه ان الغواصة الألمانية قامت بضرب احدى السفن القطرية بالمدافع ونوخذتها من دولة قطر يدعى ولد الخال (36).
ويتكرر هذا المشهد مع النوخذة عبدالله كورجي من اهل كنج، يذكر النوخذة العثمان ان السفينة كانت عابرة للمحيط الهندي من منجلور بالهند الى ممباسا الافريقية وفي منتصف الطريق هاجمتهم غواصة المانية واطلقت النيران على السفينة وأغرقتها على حد قوله (37).
وهنا القارئ يعجب كيف كان النواخذة يخاطرون بحياتهم وحياة بحارتهم خلال سنوات الحرب التي لم تمنعهم من مزاولة الاسفار وكسب المعايش، وإلام تفضي رحلة البحث عن الرزق والكسب الحلال.
اضف الى ذلك ان النوخذة العثمان كان يذهب في بداية الموسم الى ساحل الهند خاليا من البضاعة (38) لكي يصل الى ساحل الهند الغربي خلال سنوات الحرب العالمية الثانية - للمشاركة في نقل وشحن الاغذية والبضائع من شمال الهند الى جنوبها (39) قبل ان يعود بالبضائع والاغذية من الهند الى الخليج في تلك الفترة، اذن فهو يؤدي المهمة ذاتها مهمة ابعاد شبح المجاعات ونقص المواد الضرورية لسكان العديد من الموانئ الهندية.
يبدو ان السنوات القليلة في اثناء الحرب وبعدها سنوات مزدهرة بالنسبة للنقل الشراعي الكويتي، اذ كان حاصل رحلة الهند (ذهابا وإيابا) لإحدى السفن الشراعية ما مقداره 55.018 روبية كما بلغ عدد سفن الكويت عام 1946 الى ما بعد انتهاء الحرب حوالي 166 سفينة (40).
من المعلوم ان السفن الشراعية لعبت دورا مهما في الحرب العالمية الثانية بسبب انقطاع الكثير من السفن البخارية عن ارتياد بلدان الخليج، ومنطقة الهند وما جاورها، وبلاد شرقي افريقيا، لذا اعتمدت هذه المناطق في معظم مبادلاتها التجارية على السفن الشراعية الكويتية بشكل كبير، وقد زاد من نشاط النقل البحري تدهور نشاط الغوص على اللؤلؤ، مما شجع انتقال رؤوس الأموال الى نشاط النقل البحري وتوسعه، كما ادى ازدهار تجارة تهريب الذهب (41) من وإلى الهند في اثناء وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة الى زيادة نشاط السفن الكويتية، يذكر لنا النوخذة العثمان في احدى اسفاره انه قام بنقل كمية من الذهب على شكل جنيهات قيمتها (200 ألف جنيه) من الهند الى الكويت في سنة 1945 (42).
خلاصة ختامية
تشكـــــل «روزنامــــــة» النوخذة عيسى العثمان مصدرا هاما بالنسبة للتأريخ الملاحي الخليجي بصفة عامة خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتبرز الأهمية من خلال المواضيع التالية:
- الاهتمام بالتفاصيل الملاحية، ووصف تعدد البنادر (الموانئ)، والمجاري البحرية.
- وصف موجز للأماكن التي مرت عليها السفن بالقرب من الساحل، والبحار التي قطعتها، والموانئ التي مرت بها، والبضائع التي نقلتها السفينة والصعوبات والحوادث التي تعرضت لها.
- وصف الحالة التجارية للبنادر (الموانئ) التي زارها النوخذة.
- الطرق البحرية التي تسلكها السفن الشراعية.
- التنظيمات التجارية وبعض التقنيات (الأدوات البحرية) التي يستعملها النوخذة المعلم.
- صور المشاهدات والوقائع اليومية للنوخذة ورفقائه من البحارة في اثناء الرحلة.
- معرفة الظروف السياسية السائدة في الخليج وبحر العرب وغرب المحيط الهندي خلال الحرب العالمية الثانية.
- روايات النوخذة العثمان قيمتها العلمية اكبر ولا غنى عنها فالمعلومات المتضمنة في الروزنامة تساهم مساهمة فعالة في رصد العديد من الجوانب المتعلقة بالمجالات الملاحية والتجارية في الخليج العربي خلال الفترة قيد الدرس.
- كان حضور موانئ الهند الغربي قويا في الرحلات التجارية الى جانب موانئ بحر العرب، اما سواحل افريقيا الشرقية فكانت الاشارة اليها محدودة، ومن ثم فالملاحة التي طالت الخليج تأسست على ما يمكن ان نسميه: «النموذج الهند الغربي».
- لو كان لشط العرب لسان لكان رواية لمراحل مهمة من تاريخ الملاحة الكويتية ودورها في اقتصاد الجنوب العراقي في تاريخنا المعاصر، ففي أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 قامت السفن الشراعية الكويتية بنقل التمور العراقية الى عالم المحيط الهندي، كما ان السفن الشراعية الكويتية كتبت على اديم شط العرب صفحة من صفحات تاريخ الملاحة النهرية.
وفي الختام، يجدر بنا ان نقول ان الروزنامة البحرية سجل وثائقي منظم يرجع اليه المتخصصون في المجال الملاحي الخليجي في تاريخنا المعاصر.
بيبلوغرافيا
(1) انظر المقدمة عبدالله الغنيم، المختار في مجاري البحار للنوخذة عيسى العثمان، مركز الدراسات الكويتية، 2000، ص6.
(2) المصدر نفسه، ص 7.
(3) يعقوب يوسف الحجي، الروزنامات البحرية الكويتية، روزنامة النوخذة عيسى العثمان، الكويت، مركز البحوث والدراسات الكويتية، 2004، ص 143. النوخذة عيسى العثمان، المختار في مجاري البحار، دليل الملاحة التقليدية في الكويت، الكويت، مركز البحوث والدراسات الكويتية، 2000، ص 15 ـ 16.
(4) سافر النوخذة العثمان من الكويت إلى البصرة وشحن السفينة بالتمر ثم أبحر إلى بومبي حيث باع التمر، ثم سافر الى كاليكوت جنوب الهند حيث اشترى الأخشاب، وعاد ثانية الى البصرة. روزنامة النوخذة العثمان، ص 143، عيسى العثمان، المختار في مجاري البحار، ص 17.
(5) يعقوب الحجي، الروزنامات البحرية الكويتية، مركز البحوث والدراسات الكويتية، الكويت، 2006، ص 7.
(6) المصدر نفسه، ص 10 ـ 15.
(7) المصدر نفسه، ص 10.
(8) يطلق على هذا الجزء من الرحلة (العبرة)، كما يطلق على اقتراب السفينة من اليابسة (النتخة). المصدر نفسه، ص 12.
(9) المصدر نفسه، ص 12.
(10) انظر الى مذكرات عيسى عبدالله العثمان، المختار في مجاري البحار ـ دليل الملاحة التقليدية في الكويت، مركز البحوث والدراسات الكويتية، ط2، 2000، ص 15 ـ 16.
(11) يعقوب الحجي، الروزنامات البحرية الكويتية، ص 10.
(12) يستخرج من جداول كتاب (المناك) ـ ميلان الشمس في ذلك اليوم ثم يحدد بعد ذلك خط العرض الذي تقع فيه السفينة. وبعدها يقوم النوخذة باستخراج مساج السفينة ـ ومن مساج السفينة ومن موقع النجم يستطيع ان يحسب خط الطول. المصدر نفسه، ص 10.
(13) المصدر نفسه، ص 10.
(14) كان الكويتيون في القرنين 19 و20 يستخدمون نوعا من السفن الشراعية الكبيرة المسماة (البغلة)، وكذلك (البقارة)، لكنهم استخدموا فيما بعد (البوم) الذي تم تصميمه في الكويت ـ وكانت أكبر سفينة شراعية من نوع (البوم). محمد عبدالهادي جمال. الحرف والمهن والأنشطة التجارية القديمة في الكويت، الكويت، مركز البحوث والدراسات الكويتية، 2003، ص 67.
(15) كانت الهند آنذاك من أكبر اسواق التمور في العالم، وقد ضمت مراكز تجارية وتجارا متخصصين في هذه السلعة.
(16) يعتبر تمور العراق من أفضل أنواع التمور ـ من أنواعها (السعمران، الحلاوى، الخضراوي ثم الزهري أما البرحي فللاستهلاك المحلي، وذلك لأنه أفضل التمور حلاوة. أما أهم الأماكن الغنية بالتمور في العراق فهي على سبيل المثال: قرى (أبو الصخيب، وبو سفان، والقطعة، والسيبة والمناطق القريبة من الفاو كـ (الدروق والزيادية والفداقية والمعامر). انظر الى جدول يعقوب الحجي، النشاطات البحرية القديمة في الكويت، الكويت، مركز البحوث والدراسات الكويتية، 2007، ص 175 ـ 176.
(17) المصدر نفسه، ص 107.
(18) انظر الرياح الموسمية التي تهب على بحر العرب وشمال المحيط الهندي. يعقوب الحجي، دليل الروزنامة البحرية، م7، الكويت، مركز البحوث والدراسات الكويتية، ص 25 ـ 39.
(19) تعد كراتشي من أهم موانئ الهند في الماضي قبل انفصال باكستان عنها عام 1947م.
(20) يستخدم الملح الطبيعي كسماد لأشجار جوز الهند. ويكثر هذا النوع من الملح في بعض الجزر القريبة من ميناء بومبي، وهذه اشارة تفيد دور نواخذة الكويت في نقل البضائع بين الموانئ الهندية.
(21) لكل نوع من التمور استعماله الخاص ـ فمثلا يستعمل التمر الديري لصناعة الأصباغ، اما الزهدي فيستخدم لانتاج الخل، بينما يفضل السعمران كغذاء نظرا لانخفاض سعره.
(22) محمد عبدالهادي جمال، الحرف والمهن والانشطة القديمة في الكويت، مركز البحوث والدراسات الكويتية، ص 71.
(23) يعقوب حجي، النشاطات البحرية، 107 ـ 124؛ محمد جمال، الحرف والمهن والانشطة التجارية، ص 59 ـ 73. روزنامة العثمان، ص 35.
(24) في السفرة الثانية عشرة سنة 1949م يذكر النوخذة العثمان انه عاين الجنود الصوماليين المسلحين وهم على ظهور الجمال في بند رأس الحافون الصومالي، فبعد ان قاموا بدفن البحار «علي العماني» اسرعوا الى قاربهم واتجهوا الى سفنهم، إذ بدأ المسلحون الصوماليون باطلاق النار عليهم، ولكنهم سلموا من أذاهم. تفيد هذه الرواية ان المرفأ الصومالي بات غير آمن إبان الحرب العالمية الثانية. انظر روزنامة النوخذة العثمان، ص 355.
(25) إذا لم يتوافر المعلم (نوخذة العبور) يضطر النوخذة للبحث عن نوخذة يحسن قياس مواقعه في البحر ويطلق عليه في هذه الحالة سنيار (سنجار). كان النوخذة عبدالرحمن إبراهيم العثمان (سنيارا) للنوخذة عيسى العثمان في هذه الرحلة ـ روزنامة النوخذة عيسى العثمان، ص 229.
(26) المصدر نفسه، ص 299، 355.
(27) انظر روزنامة عيسى العثمان، ص 299، 355؛ يعقوب الحجي، النشاطات التجارية، ص 127، 134؛ محمد جمال، الحرف والهن والأنشطة التجارية، ص 71، 73.
(28) النوخذة عيسى العثمان، المختار في مجاري البحار، ص 26.
(29) انظر روزنامة عيسى العثمان، ص 35، 110، 175، 203.
(30) المصدر نفسه، ص 143.
(31) المصدر نفسه، ص 175.
(32) عيسى العثمان، المختار في مجاري البحار، ص 589، 590.
(33) روزنامة النوخذة عيسى العثمان، ص 221؛ المختار في مجاري البحار، ص 585، 586، 590.
(34) عيسى العثمان، المختار في مجاري البحار، ص 587، 588.
(35) نذكر من بينهم عبدالرحمن بن خلدون الذي ذهبت عائلته غرقا في البحر المتوسط. عبدالرحمن بن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، دار الكتاب اللبناني، 1974، ص 279. وأبوبكر بن العربي الذي تعرض لحالة غرق في نفس البحر. يقول: «وقد سبق في علم الله ان يعظم علينا بنزوله، ويغرقنا في هوله. فخرجنا من البحر خروج الميت من القبر».. أبوبكر بن العربي، قانون التأويل، تحقيق محمد السليماني، دار الغرب الإسلامي، ط2، ص85.
(36) روزنامة العثمان، ص 143؛ المختار في مجاري البحار، ص 587.
(37) النوخذة العثمان، المختار في مجاري البحار، ص 592.
(38) كان سوق التمر كاسدا في ذلك الوقت. روزنامة العثمان، ص 175، 203.
(39) كانت حكومة الهند الانجليزية تطلب من السفن الموجودة في كراتشي المشاركة في ايصال الشحنات من المواد الغذائية الى اماكن في حاجة ماسة على طول ساحل الهند الغربي. انظر الى روزنامة النوخذة العثمان، ص 221.
(40) انظر يعقوب الحجي، النشاطات البحرية القديمة. ص 165.
(41) حين قامت الحرب العالمية الثانية 1939، ارتفع سعر جنيه الذهب في الكويت وأصبح الواحد منه عام1940 يساوي (60) روبية بينما كان سعر الواحد منه في الهند آنذاك (28)، روبية، لكن حكومة الهند البريطانية منعت ذلك رسميا. انظر يعقوب حجي، النشاطات البحري، ص 178.
(42) روزنامة العثمان، ص 245.
الملحق
هذه الخرائط صورناها عن الاصل الموجود بكتاب «يعقوب الحجي، الروزنامات البحرية الكويتية «دليل الروزنامة البحرية»، الكويت، مركز البحوث والدراسات الكويتية، م7، 2004».
- شكل رقم (1): الناليه (الخريطة الملاحية الكويتية).
- شكل رقم (2): مدخل شط العرب.
- شكل رقم (3): شط العرب (من المخراق إلى البصرة).
- شكل رقم (4): بنادر شمال الخليج العربي.
- شكل رقم (5): مضيق هرمز والبنادر حوله.
- شكل رقم (6): بنادر ساحل مكران (بلوشستان).
- شكل رقم (7): بنادر ساحل شبه الجزيرة العربية الجنوبي.
- شكل رقم (8): بنادر ساحل الهند الغربي.
- شكل رقم (9): بنادر ساحل افريقيا الشرقي.
- شكل رقم (10): من زنجبار إلى دلتا نهر الروفيجي.
- شكل رقم (11): نجوم البوصلة البحرية (المطلع والمغيب).
- شكل رقم (12): الأدوات البحرية (I).
- شكل رقم (13): الأدوات البحرية (II).
- شكل رقم (14): البوصلة البحرية (المنجمة).
- شكل رقم (15): الطرق الملاحية للسفن الشراعية.