بلغة شعرية أخاذة وفي فضاء فلسفي وميتافيزيقي مشحون بالمعاني المفقودة في عصرنا الحاضر، يكتب ماكس بيكارد عن الصمت، هذه الظاهرة المستترة والتي اعتصمت في ذاتها عن التسليع وأن تصبح قيمة تبادلية سوقية، واستعصت على الاستثمار والربح من بين كل الظواهر العظيمة كالطبيعة والأرض والسماء والهواء والنار والإنسان ذاته. الصمت لدى بيكارد كل مستقل له وجوده الخاص، وليس ظرفا سلبيا يزول بزوال الظرف الايجابي، إنه اللامرئي الحاضر، واللاملموس الواضح، وغير المحسوس المتجسد، والممتد بلا حدود، والمتوافر دائما بتدفق يفوق كل هذا الضجيج الكوني. الصمت من يعيد الأشياء الى كمالها، من خلال اعادتها من عالم الاسراف الى عالم الصمت المثمر الذي ينضج فيه الزمن ويتكاثر.
الصمت ليست له بداية، مخلوق قبل الموجودات والمعاني كالحب والموت والولاء والإيمان والأمل، وجميعا ترجع إليه، لتتصل بما خلفه، بالمقدس والمتعالي في هويته الذي يطوقه الصمت ويحيطه، كل ما هو مقدس وإيماني صرف لا يحضر دون هالة الصمت. إنه الشبكة اللامرئية التي تمسك الأرواح واللطائف وتصلها ببعضها في عالم الصمت ما فوق الدنيوي.
لا يدعي بيكارد منذ البداية أن هدفه توجيه القارئ الى فلسفة الصمت، بل يحاول جاهدا إعادة اكتشاف الصمت وانتشاره من أجل اللغة والحقيقة والجمال واتصالهما بالصمت، لتتخلق مجددا داخله وتنطلق مملوءة بالحياة وزاخرة بالمعنى ومتحررة كالخيول في برية الصمت المقدسة، والحديث هنا عن اللغة التي تملك أكثر مما هو ضروري للتفاهم والمعلومة، اللغة التي تنتسب إلى نفسها وتخلق شعرا بمحض اختيارها .
الصمت فضاء الكلام، تتحرك الكلمات من خلاله وتطير في الأمداء، وتنزوي في الأماكن الضيقة، يقول بيكارد «عندما يتحدث شخصان إلى بعضهما، فإن شخصا ثالثا، يكون على الدوام، حاضرا: الصمت يصغي». من نواميس الطبيعة والكون عودة الأشياء لأصلها ومرجعها، لذا على الكلام أن يعود الى الصمت كما يرجع الإنسان بعد الموت الى المكان الذي جاء منه. الصمت ينبوع نقي يجدد ابتكار اللغة والكلمات ويصفيها من الرداءة، تستمد منه براءتها وبساطتها وأصالتها ورونقها، هذه اللغة والكلام التي يراها بيكارد تلاشت في ضجيج العالم الحديث بابتعادها عن الصمت، وكل توقف لها هو آنٍ لاستعادة الصخب، اذ لم تعد هناك لغة محددة وصمت مستقل في العالم الحديث، حتى الصمت الآخر (الموت) أصبح مجرد شيء سلبي أو نهاية متطرفة لما نسميه الحياة. مفهوم الموت تم قتله، وليس هو الموت ذاته في مقولة الفيلسوف واللاهـــــوت الروسي فلورنسكي:« يموت الإنسان مرة واحدة في حياته، حيث انه يفتقر الى خبرة الحدث فإنه يعمله بغير إتقان، وبغية أن يموت بنجاح، فعليه أن يتعلم كيف يموت باتباع تعليمات الناس المجربين الذين يعرفون أن يموتوا في معمعة الحياة. الزهد يمنحنا هذه الخبرة عن الموت». عندما تفقد اللغة ارتباطها بالصمت فهي تفقد جوهرها، وتحدث بصورة أوتوماتيكية انطلاقا من قوتها الخاصة التي تأخذها الى النهاية. في لغة الشعراء تبقى الكلمة متصلة بالصمت وتظهر كالشبح مليئة بالحزن وينبغي عليها أن تختفي مرة أخرى.
الصمت يجلب الحزن للإنسان، لأنه كما يقول بيكارد «يذكره بتلك الحالة التي لم تكن فيها قد وقعت بعد السقطة التي سببتها الكلمة». ويرى أن الصمت مختبر حي للإبداع والأعمال الخلاقة. كما علينا أن ننسى الكلمات ونتخلى عنها ليمتصها الصمت وتذهب في طريقها للموت، حتى نستطيع التسامح.
يصف بيكارد أصوات الموسيقى بأنها حركة وإيقاعات تحدث فوق سطح الصمت وجزء منه لا نقيضه، الموسيقى فسحة للأرواح تتنزه فيها بلا خوف، لأنها موطن الأرواح الآخر التي اغتربت عنه وغادرته ولا شيء قادر على حمل الموسيقى إلى الأرواح سوى الصمت.
ويتناول بيكارد الصمت واللغة وما يحمله كلاهما من الحقيقة، يقر أن الحقيقة تتجلى في منطق اللغة ويقظتها وربما تعمل اللغة على تعتيم الحقيقة بزوغانها وزيفها. لكنه يرى وجود الحقيقة في الصمت أيضا «وجود الحقيقة في الصمت بمقدار مساهمة الصمت في الحقيقة الحاضرة في نظام الوجود عموما». الحقيقة في الصمت هاجعة وخامدة وحيادية بعكس وجودها في اللغة التي بطبيعتها لا يمكنها الاستمرارية دون حملها للحقيقة، وإلا ستندثر وتصبح ضبابا يغطي الصمت، والصمت بدوره هو اللغز الذي يطوق الحقيقة ويجب أن تبقى لغة وكلمات الحقيقة على اتصال بالصمت، لأنها بدونه تبدو صلدة وخشنة وغير مقبولة. يتراءى لبيكارد أن هناك إشعاعا يطوق الحقيقة، وهذا الباعث قادر على تمدد الحقيقة في كل الاتجاهات، إنه الجمال الموجود قبل كل شيء في الصمت، ومنها تأتلف الكلمة والحقيقة وإشعاع الجمال بلا تراتبية أو أسبقية، لتكتمل في ذات واحدة «بداية الإنسان، إثمه، وخلاصه».
يرثي بيكارد الصمت في المدن ويصفها بخزانات ضجيج عملاقة، ويؤكد أن هناك مسعى للخراب والتدمير يعم هذه العوالم والشوارع المزدحمة، وبالتالي يقول «لم تعد هناك وحدة عالمية للروح والدين والسياسة. لكن توجد وحدة عالمية للضوضاء». هناك بقايا صمت يحاول بيكارد استعادتها واسترضاءها، تلك الأشياء التي لا يمنحها أحد الصمت أو يسلبها منها، كما قال أحد الفقراء لآخر «لا أحد يمنحني احترامه، لذلك منحت نفسي الاحترام، وبطريقتي».
يمسك بيكارد بعالم شبه مندثر ويعيد تشييده بين القارئ وصمته الخاص، وبين الصمت والشعر والحقيقة والإيمان والتاريخ والأمل والأخيلة واللغة والأنا والمعرفة والحب وغيرها من المعاني المتصلة بقيمة الإنسان الوجودية، لا يغفل ايضا علاقة الطبيعة بالصمت والحيوانات والزمن ووجه الإنسان، والشيطاني في الصمت والكلام.
هذا الكتاب يعيدنا الى مكان منسي وغائب يمكننا من خلاله الخروج من بين الحطام واللجوء للصمت للاستشفاء من أمراض العالم الحديث كالقلق والخوف والتوتر والشعور الدائم بحالة العجز واللاإنجاز.
يعتبر هذا الكتاب الأول المترجم للفيلسوف واللاهوتي ماكس بيكارد إلى اللغة العربية، رغم أهمية الكاتب وتأثر أسماء أدبية كبيرة بأعماله كالشاعر ريلكه والروائي هيرمان هيسه، ويعرف ماكس بيكارد بلقب «ضمير أوروبا». تقوم الافكار الرئيسية لبيكارد على وقوف الانسان بين طرفي معادلة شاقة «مسؤولية محتومة وإمكانية أن يختار «ويعتبر ما لحق بالبشرية من مآس تالية نتيجة منطقية لانعدام التوازن بين طرفي هذه المعادلة».
من كتبه «هتلر في نفوسنا» يصف بيكارد في هذا الكتاب التحول الاجتماعي والنفسي الذي حدث للإنسان في العصر الحديث والذي مهد لصعود هتلر. وكتابه الهروب من الله والإنسان واللغة . درس الطب وتركه ليتفرغ لفهم عذابات الانسان واستخدم معارفه الطبية والنفسية ليتعمق في الرؤى الميتافيزيقية والدينية.
ترجم هذا الكتاب وقدمه د. جاسم قحطان عن اللغة الإنجليزية وبمساعدة زوجته عاد للأصل باللغة الألمانية في عدة مواضع. وقد أوضح مشكورا في مقدمته أنه استثنى نصين من الترجمة وهما «الصمت والفنون البلاستيكية» و«الراديو». ويعزو ذلك لتكرار افكارهما في كتب ماكس بيكارد ولانخفاض اللغة الشعرية فيهما. وصدر الكتاب عن دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، في عام 2017.
قام بعرض الكتاب
سالم الصقور