إن المنطلق الذي يرسم للإنسان حقيقة الحياة هو قيامها على مبدأ رئيس، ومنهج قويم، يؤمن به صاحبه، وفي ظل غيابه (المبدأ) تغيب الحياة طبعا، وكما يقال، فإن تشابهت ألبستهم فقد استوت عقولهم واستقرت آراؤهم، وإن تطابق فكرهم وسهل إقناعهم أو دحض حجتهم فقد أضحوا قطيعا يسهل توجيهه وفريسة كثر صيدها فقرب انقراضها، وهكذا هم الناس يصبحون بلا مبدأ!
ستجدهم يتشدقون بحب الاختلاف والتفرد والعيش في حرية من ناحية المبدأ القويم والسلوك السليم والمنهجية للتعامل مع البشر بمختلف توجهاتهم الفكرية، كما ستجدهم أيضا ينظرون للتفكير خارج الصندوق، وسينكرون سعيهم المتواصل وراء جهلهم بارتفاع نهيقهم وتسلط ألسنتهم للأسف، وهذا ما هو مطابقا لما نعيشه ونعانيه في واقعنا اليوم، فالموضوع يحاكي صورة موجودة بيننا، وما نخوض من اضطراب مبدئي غير قار، لست أدري السبب المتحكم فيه، ولكن غايتي بيان أن حقيقة الحياة تقوم على المبدأ والإيمان به.
فإن المبدأ هو ذلكم الوجه الجمالي المعبر عن حقيقة الإنسان وفضائله، إنه ميزة حسنة فينا كبشر ما دمنا في عالم الوجود، وفي عدمه ينعدم صاحبه، وبعبارة أخرى: إن المبدأ إذا قام على خصوصيات إنسانية جليلة، وقيم سمحة، فإنه يعبر عن صورة الشخص الذي يحمله من حيث طبيعته وأعماله وأفكاره وأهدافه، فهو الأس في هذه الحياة بشتى مناحيها، وإنه الوجه الذي يحفظ كرامتنا، وهذا ما سينعكس بالتالي بالإيجاب على مجتمعنا.
قال «مالك بن نبي» في كتابه مشكلة الثقافة: «إن تنظيم المجتمع وحياته وحركته، بل وفوضاه، وخموده وركوده، كل هذه الأمور ذات علاقة وظيفية بنظام الأفكار المنتشرة في ذلك المجتمع»، فنقول: إن ما يؤصل طبيعة هذه الأفكار في المجتمع هو نوعية المبدأ الذي يقوم عليه أفراده، باعتباره يحدد أسلوب الحياة وسلوك الفرد، وهذا بتعبيره، وقد جعل رحمه الله المبدأ الأخلاقي واحدا من الركائز التي تقوم عليها الثقافة الإنسانية، بالإضافة إلى الذوق الجمالي، والمنطق العملي (الفعالية)، والصناعة أو الجانب الفني، ومن هذه المؤسسات خص لنا المبدأ الأخلاقي على أنه أقوم ركيزة من هذه الأمور التي ذكرت، والأليق لبناء ثقافة معينة، وخلق مجتمع أفضل سمته المسؤولية والفعالية، وما نريد تأكيده من كلامه هو أهمية المبدأ في حياة الفرد خاصة، وفي المجتمع عامة، إذ به تتحقق الحياة، ويحفظ ماء الوجه وصفاؤه، وتتأكد إنسانية الإنسان وقيمه السمحة.
ومبادئ المجتمع قائمة على مبادئ الأفراد، وهنا تكمن أهمية المبدأ، فالمبدأ يغذي الفرد، ويرسم له طريق حقيقة الصفوة الإنسانية، بل ويدل على سمو قدر صاحبه، إذ يرفعه إذا وجد، ويحط منه إذا انعدم، ونورد في ذلك نصا للأستاذ محمود شاكر إذ يفصح فيقول: «وعقيدتي أن حقيقة الحياة هي المبدأ والإيمان به، وبغيرهما ينقلب الإنسان آلة عاملة لا يعرف الإيجاد والإبداع، والمقاومة، والنزوع العقلي والروحي إلى المعاني السامية والفضائل العلوية، وكذلك يفقد الإنسان الحياة، وكذلك يضيع التراث الإنساني الذي جاهدت أجيال البشر الغابرة في سبيله بما وهبت من قوة، وأعينت به من وسيلة، إن صحة المبدأ وحدها كفيلة بإحداث أعظم الآثار في تاريخ العقل الإنساني، وأما الإيمان بهذا المبدأ فهو إعطاء العقل قوة التدبير».