جملة نقولها ونرددها بين الفينة والأخرى تعني الكثير لمن بحث في معناها وتأملها، فعندما يقول المرء «لست أدري» يكون قد وضع نفسه في خانة الأمان وارتاح وأراح وكفى نفسه الحل والترحال، ونحن بالفعل نجهل أمورا كثيرة، وإذا سئلنا عنها نقول لا ندري، حتى لا ندخل أنفسنا في متاهات، وهذا هو الصحيح، فهل يعلم الإنسان متى يموت؟ وهل يعلم عن رزقه شيئا؟ وهل يعلم عن غده شيئا أو ما يخفيه له القدر؟
بالطبع لا، علم ذلك عند الله، ومع ذلك فنحن نرى كثيرا من الناس يخجلون من هذه الجملة فلا يقولونها وكأنها عيب يستحيي منه، وهذا هو الخطأ بعينه، فكيف أصبحت هذا الكلمة عيبا في زماننا هذا، مع العلم أنها جملة مريحة لك ولمن سألك؟
سئل الفقيه عامر الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تستحيي من قولك لا أدري وأنت فقيه العراق كله؟ فقال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا. وقد قال حكيم: من قال لا أدري فقد أفتى. وقال عمر بن عبدالعزيز: من قال لا أدري أحرز نصف العلم. فما بالنا ندعي المعرفة، ونتكلم في كل شاردة وواردة ونحن في الحقيقة ندور في حلقة مفرغة ونفسر الماء بعد الجهد بالماء.
إن ادعاء المعرفة داء توغل في مجتمعنا، وهو خطر على النشء خاصة، لأنهم يأخذون معلوماتهم من مصادر غير موثوقة، وهي ظاهرة دخيلة يجب التصدي لها، فادعاء المعرفة خيط باطل لا بد من الانتباه له، فمدعي المعرفة آفة علينا أن نحاربها، وكيف تعرف هذا الصنف من الناس؟ ستجده يجيب عن سؤال موجه لغيره بسرعة ويتدخل في كل حوار لا شأن له به، ويقاطع من يتحدث، ولا يعطيك مجالا للتعبير عن رأيك، ولا يقبل بالرأي المخالف لرأيه، ويعتبر رأيه هو الصحيح، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقول لست أدري، ففي هذا القول مشكلة كبيرة بالنسبة له، وقد قال المولى عز وجل (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). ولله در الحسن بن هانئ حيث يقول:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
إن ادعاء العلم والمكابرة فيما لا يعلم إنما هو مرض نفسي، كما أنه مثلبة ونقيصة، والحوار مع هذه الفئة من الناس حوار عقيم، لا جدوى منه، فمن الأفضل ألا تجادلهم ولا تناقشهم بل تبتعد عنهم قدر إمكانك، فهم يحاولون الظهور بدعوى أنهم أهل فهم ومعرفة ولكن في حقيقة الأمر هم خاون منها، ولعلنا نتذكر قول قارون: (إنما أوتيته على علم عندي) فخسف الله به الأرض، وقد قيل: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. فالجهل أقل ضررا من وهم المعرفة.
ومن هنا أقول إن «لست أدري» نعمة يجب أن نحافظ عليها، ودمتم سالمين.