هذا مثل جميل جاءنا من الشقيقة الكبرى مصر، يقول: «من قدّم السبت يلقى الأحد قدامه»، فصار الناس عندنا يتمثلون به في أحاديثهم بمجالسهم حتى أصبح معروفا، فمن قدم خيرا وجده، ومن قدم شرا وجده، مصداقا لقول الله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) «الزلزلة».
فهذا نظام إلهي سنه المولى عز وجل على عباده منذ خلق الأرض ومن عليها، ولو كان الأمر غير ذلك لأكل القوي الضعيف وضاعت الحقوق، فلم لا نقدم السبت لنجد الأحد أمامنا ونفوز برضا الله تعالى، فثمرة المعروف لا تضيع، ومن قصص المعروف أن رجلا من طي رماه الدهر بسهام الحاجة والفقر فخرج يرتاد لأطفاله رزقا فبينما هو في مسيره إذ رمته الأقدار على النعمان بن المنذر يوم بؤسه، وهو اليوم الذي يقتل فيه من يطلع عليه، فعلم الطائي أنه مقتول لا محالة، فقال للنعمان: أبيت اللعن، إن لي صبية صغارا وأهلا جياعا، وقد أرقت ماء وجهي في الحصول على بلغة لهم، وقد جاء بي إليك سوء حظي، وصبيتي وأهلي على شفا تلف من الطوى، ولن يفوتك قتلي بين أول النهار وآخره، فإن رأيت أن تأذن لي في أن أوصل إليهم قوتهم وأوصي بهم أهل المروءة من الحي بهم، لئلا يهلكوا ضياعا، ثم أعود إلى الملك لينفذ أمره بي، فلما سمع النعمان كلامه كأنه رق له ورثي لحاله فقال: لا آذن لك حتى يضمنك رجل معنا، فإن لم ترجع قتلناه، فنظر الطائي فرأى شريك بن عدي بن شرحبيل وهو نديم النعمان، فأنشد يقول:
يا شريك بن عدي ... ما من الموت انهزام
من لأطفال صغار ... عدموا طعم الطعام
يا أخا كل كريم ... أنت من قوم كرام
يا أخا النعمان جد لي ... بضمان والتزام
ولك الله بأني ... راجع قبل الظلام
فقال شريك: أصلح الله الملك عليّ ضمانه، فذهب الطائي لشأنه مسرعا، فلما غابت الشمس قال النعمان لشريك: تأهب للقتل، فقال شريك: هذا سواد رجل مقبل فإن لم يكن الطائي فشأنك بي، وبينما هم كذلك إذا الطائي قد عاد وهو يقول: جئت مسرعا خشية من أن ينقضي النهار، ثم قال: أيها الملك هاأنا ذا عدت فمر بي بأمرك، فأطرق النعمان مفكرا ثم رفع رأسه وقال: والله ما رأيت أعجب من أمركما، أما أنت يا طائي فما تركت لأحد في الوفاء مقاما يقوم به ولا ذكرا يفتخر به، وأما أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها بإسداء المعروف لمن لا تعرفه، ولا أكثر منك سماحة، فلا أكون ألأم الثلاثة، فاشهدوا أني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس، كرامة لوفاء الطائي وكرم ومعروف شريك، ثم وصله النعمان وأغناه وأعاده إلى أهله مكرما فقال الطائي مبينا سبب وفائه:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي
فعددت قولهم من الإضلال
إني امرؤ مني الوفاء سجية
وفعال كل مهذب مفضال
وهذه القصة من ثمرة المعروف. دمتم سالمين.