كثير من الناس ينطبق عليهم هذا المثل المشهور، فتجدهم بين التذبذب والتردد والحيرة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يعيشون في توتر وقلق بين أمرين، يعانون من سوء الاختيار ويفتقرون إلى الحكمة والرأي الصائب وحسن التصرف، متناسين أن الخيرة فيما اختاره الله، وليس الناس فقط من يعانون من ذلك، وإنما حتى بعض الدول في سياساتها وعلاقاتها تعاني من الأمر ذاته.
أما الناس فمكمن حيرتهم وترددهم تشبثهم بالدنيا وحبهم للمال، فهم مائلون إلى الدنيا ميلا شديدا، لأنها أصبحت أكبر همهم، ولله في خلقه شؤون، وبالعودة إلى مثل «بين حانة ومانة»، فالحانة في اللغة اسم معناه الفاقة والحاجة الشديدة، وهي مفرد والجمع حانات، فعندما نقول: ما للرجل من حانة ولا مانة فالمعنى ليس له ناقة ولا شاة، أما مانة فأصلها من التموين، ولها معان أخرى، والمثل إجمالا يفسر حسب الوضع الذي يكون فيه الإنسان، وغالبا ما يوصف به صاحب الشخصية المهزوزة الضعيفة المترددة، التي تفتقر إلى الحكمة والحزم ولا تخلو هذه الشخصية من الغباء، على الضد من قول الخليفة أبو جعفر المنصور:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
وللمثل قصة، وان اختلفت الروايات عليها فالمعنى واحد، فقد ذكر أن رجلا كانت له زوجتان الأولى اسمها حانة والثانية اسمها مانة، وكان هذا البائس المسكين ذا لحية طويلة اختلط سوادها ببياضها، فإذا كانت ليلة زوجته حانة وهي الأصغر والأجمل، نظرت إليه وقالت: يا فلان، إنك مازلت شابا قويا وهذا الشعر الأبيض في لحيتك يجعل من يراك يظن أنك مسن، وأنا أريد أن أراك ويراك الناس شابا، فيسألها عن الحل فتقول له: انتف هذه الشعرات البيض من لحيتك حتى تبدو لمن يراك في مقتبل عمرك، فيصدق ما قالته حانة ويسرع بنتف شيبه، ثم تأتي ليلة زوجته الثانية مانة فتنظر إليه بدهشة وتقول: ما الذي فعلته بنفسك يا رجل؟ وكيف تفعل ذلك؟! أنت كبير جماعتك والمشار إليه من بينهم، وتنتف شيبك؟ إياك وأن تعود لمثلها، ولابد أن تترك الشيب يغزو لحيتك ليهابك الناس ويحترموك ويحسبوا لك حسابا، فانتف الشعر الأسود، فيقوم بنتف الشعر الأسود، وهكذا ظل يراوح بين حانة ومانة على هذه الحالة فما مر عليه شهر حتى أصبح بلا لحية، فنظر إلى نفسه في المرآة نادما على ما فعل بنفسه وكيف وصل به الحال إلى ما يرى، وقال: بين حانة ومانة ضاعت لحانا!.
والحقيقة أن أصعب ما يمر به الإنسان التردد في اتخاذ قرار مهم في حياته إزاء مشكلة تواجهه فيلجأ إلى الهروب منها ونسيانها لأسباب كثيرة منها الخوف وقلة الثقة بالنفس، والإفراط في التفكير، وعدم قدرته على اتخاذ القرار المناسب، فلم لا يسأل ويشاور أهل الحكمة والدراية من أصحابه، ويعزز ثقته بنفسه ويفكر بهدوء، وأن يوازن بين عقله وقلبه، وقبل كل شيء يستخير الله ويتوكل عليه، لعل وعسى أن يوفقه الله إلى الرأي الصائب؟ ودمتم سالمين.