منذ اللحظات الأولى لتلقيه خبر تعرض ابنه عبدالله لحادث سيارة أدخله العناية المركزة، وهو متسلح بقضاء الله وقدره، فمكث بالقرب من ابنه عبدالله صابرا يناظر الأطباء، يقرأ ما ترسله أعينهم له من سيئ الأخبار بتعبير مؤلم غير لفظي، لم يبرح مكانه لعل خبرا من هذا الاستشاري أو ذاك الطبيب يطمئنه عن حال عبدالله، إلا أن شيئا من هذا لم يحدث، ثقلت تحركات الأطباء وبطؤ معها الفرج، زاد الهم واشتد الخوف، فتعلق بالأمل أكثر وبرب الاستشاريين والأطباء والعباد، طال الانتظار، أنهكت قواه فازداد الألم وتعاظم الخوف على مصير عبدالله، وتحمل أعباء أكثر مما تتحمله طاقته المنهكة أصلا.
ازدادت آلام بوعبدالله بعد أن اكتشف وجود ذلك الجمع من أصدقاء عبدالله، متجمعين لم يبرحوا المستشفى البتة، يراقبون ينتظرون يتألمون ويتأملون من الله الفرج، شباب صغار فجعوا بخبر الحادث الذي تعرض له صديقهم عبدالله، فلم تسعفهم خبرتهم بالحياة من حسن التعامل والتصرف مع هذا الموقف، فكان الأحرى حينها الوقوف مع والد عبدالله لمواساته بمصابه والتخفيف عليه، فما كان من أبو عبدالله الذي كان بأمسّ الحاجة لمن يهدئ من روعه، الا باحتواء هؤلاء الصبية والتقرب لهم والتخفيف عن حزنهم، وعن شدة خطورة وضع عبدالله الصحي! بل وتهيئتهم للمكتوب والمقدر من الله، فكان البلسم الذي خفف عنهم شدة الحزن، لله درك يا أبا عبدالله، كيف قمت بهذا الدور؟ مرت الأيام ثقيلة، كئيبة، مخيفة، وأبو عبدالله متسلح بربه الذي جعل هذه الدنيا دار فناء وزوال، لا تصفو لأحد، ولا تدوم على حال، إن أضحكت أبكت، وإن سرّت أحزنت، زينتها سراب، وعمرانها إلى خراب، كل حي فيها يموت، إنها الحقيقة التي لا ينجو منها مخلوق، لو دامت لغيرنا لما وصلت إلينا.
واصل أبو عبدالله وأصدقاء ابنه الانتظار بالقرب من العناية المركزة، تشرق عليهم شمس كل يوم جديد وهم ينتظرون، وإذا أفلتت شمس ذلك اليوم ازدادوا خوفا من يوم آخر وما يحمله من قدر مكتوب، طال انتظارهم، لكن قلب المؤمن دليله لأنه معلق بربه عز وجل، فهو في معيته سبحانه وتعالى، خفقت دقات قلب بوعبدالله عندما أسرعت خطوات الأطباء باتجاه سرير عبدالله، تأرجحت دقاته بتراجعهم مهزومين، قرأ همسات شفاههم بشكل جيد، فأدرك معانيها، وأجبرته حالة اللاتوازن التي عاشها حينها على التعلق بالأمل الذي توارى إلى اللاعودة، لقد اختاره علام الغيوب بجواره واستعاد أمانته.
توفي عبدالله، وحان أجله وانقضى عمره، فلن يتأخر ساعة ولو اجتمع له أطباء العالم كله، تدارك أبو عبدالله أن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، يمتحن فيها الإنسان بالمصائب والأقدار المؤلمة، ومن أعظم المصائب التي يصاب بها الإنسان مصيبة الموت وفقد الأحبة، عرف بأنه ليس الوحيد من ابتلي بهذه المصيبة، فنبينا صلى الله عليه وسلم، ابتلي بموت جميع أبنائه وبناته في حياته ما عدا فاطمة رضي الله عنها، فما أشد هذا البلاء.
لله درك يا بوعبدالله وهنيئا بإيمانك وصبرك، رحم الله ابنك المرحوم بإذن الله تعالى عبدالله الأنصاري، وأسكنه فسيح جناته.