بين الحين والآخر، تثار قضية المقارنة الساذجة بين العلوم الطبيعية والعلوم الدينية، وتفضيل العلوم الطبيعية وعلمائها باعتبارها وإياهم الأنفع للبشرية، ويغدو من اكتشف البنسلين ولقاح «كورونا»، عند البعض أفضل ممن كتب آلاف الصفحات عن الوضوء والطهارة!
وتبدو هذه المقارنة بعيدة عن المنطق، بحكم الفوارق بين العلوم الدينية وتلك الطبيعية، فعلى صعيد الآليات والأدوات، ورغم اعتمادهما على العقل، إلا أن للعلوم الشرعية مصدرا تتفرد به، وهو النقل عن المصدر الموثوق، مما يجعل المعرفة فيها بغير حاجة إلى التجربة أو إثبات من مصدر آخر، وقد تصبح حقيقة مطلقة إذا استندت إلى نص قطعي، أما المعرفة في العلوم الطبيعية فهي تخضع لقانون النسبية، وما يعتبر حقيقة علمية في عصر ما قد يصحح أو يفند في ضوء المعارف العلمية المستجدة في عصر آخر!
وهذا الفرق بدوره يقود إلى ما بعده، فالعلوم الشرعية عن طريق الوحي تتعامل مع عالم المادة وعالم ما وراءها، ولا تقتصر كحال العلوم الطبيعية على التعامل مع ما هو قابل للحس والإدراك، بالحواس أو الأدوات المادية، والعلوم الشرعية بذلك قادرة على أن تجيب وبشكل قطعي عن أسئلة ليس بوسع العلوم الطبيعية أن تخوض فيها، كيف وجد الإنسان؟ وما بدايته ونهايته؟ وما الغاية من وجوده في هذه الدنيا؟ وهل حياته فيها هي المنتهى؟
وعند التعمق، سيدرك المرء أن المشكلة عند من يعقدون مثل هذه المقارنة بصورة تزري من العلوم الشرعية وتحط من قدرها وقدر علمائها، ترجع في الأساس إلى نظرتهم السلبية للدين نفسه ودوره في هذه الحياة، فمن هؤلاء علمانيون ممن لا يريدون للدين دورا في الحياة العامة، بل أن ينحصر في سلوكيات فردية اختيارية، ومن هؤلاء من يعتبرون الدين اختراعا بشريا حتى وإن أقروا بوجود خالق!
وعلى سبيل المثال، كان بوسع هؤلاء أن يقارنوا بين العلماء الطبيعيين وما قدموه، مع أولئك ممن ينتمون إلى نفس مجتمعاتهم، ممن دونوا آلاف الصفحات في القانون والتشريع أو الغناء والرقص، التي يعدها مزدرو العلوم الشرعية من لبنات الحضارة الإنسانية، لكن فيما يبدو أن التدوين في العلوم الشرعية هو ما يستفزهم تحديدا، ويود هؤلاء اختزال التراث الإسلامي خلال 14 قرنا فيها، رغم ما قدمه كثير من علماء الإسلام في الطب والفلك والهندسة والفيزياء وغيرها، وكان منهم من جمع بين العلوم الشرعية والطبيعية، وكان تراثهم العلمي الرافعة التي استند إليها العالم الغربي في نهضته الحديثة!
إن اصطناع هذه المقارنة سيقود إلى فصام فكري، يجعل العلوم الشرعية والطبيعية في حالة من التنافس، رغم أنهما بالنظر السديد يتكاملان، بل إن الشرع قد عظم من قيمة العلوم الطبيعية كأداة لإعمار الأرض، وجعل طالبها إن أخلص النية في عبادة يؤجر عليها، فمرة أخرى لا داعي لهذه المقارنات السخيفة في نشر صورة لعالم دين مقابل عالم فيزياء مع السؤال الصبياني «أيهما أنفع للبشرية؟»
[email protected]