يلاحظ المتتبع لتلك التقارير الداخلية، التي تصدرها الإدارات المختصة في بعض الجهات العريقة ومنها جامعة برنستون، والتحديثات المستمرة التي تتناول آخر المستجدات، ذلك المستوى المتقدم والرفيع من الشفافية والمصارحة الذي تتسم به، وحرصها على إحاطة جمهورها بآخر الأحداث والمستجدات، مهما كانت صادمة ومحزنة، وهو ما كنت قد أشرت إليه في مقال سابق بعنوان «المعلومات المخيفة المفيدة!».وقد تبدى ذلك بوضوح في الرسالة التي وجهتها إدارة الجامعة قبل أسابيع عن خبر العثور على جثة إحدى الطالبات، والتي كانت قد فقدت وانطلقت عمليات البحث عدة أيام، بالتعاون ما بين السلطات المختصة.وذكر نائب الرئيس وقتها أن سبب وفاة الطالبة سيحدد بعد تشريح جثتها مع التنبيه على أنه لا توجد في الوقت الحاضر علامات واضحة قد تدل على أن الوفاة مشبوهة أو ناتجة عن عمل إجرامي، كما أنه لا يوجد أي تهديد ذي صلة بالحرم الجامعي أو المنطقة المحيطة به. كذلك، لم تقتصر الرسالة على مجرد إعلام الجمهور بالحدث الصادم، بل اهتمت بتوفير الدعم والمساندة لمواجهة الحدث وتبعاته النفسية، حيث تضمنت أرقاما هاتفية وعناوين للاستشارة والخدمات النفسية، سواء للطلاب أو لأعضاء هيئة التدريس والموظفين.ومع الإشادة بهذه الشفافية والمصارحة، إلا أنه تبقى لهذه القصة المحزنة وجوه أخرى سلبية وجوانب تقصير تحتاج لتبرير، أولها، طول الوقت المستغرق في اكتشاف الجثة، حيث اضطر فريق البحث إلى بذل مجهود ضخم خلال ستة أيام متواصلة، مستخدما طائرات الهيليكوبتر والدرونز والقوارب، ولم يتسن له العثور على الجثة في النهاية إلا باستخدام الكلاب البوليسية التي استطاعت تتبع رائحة الفقيدة! حتى أن البعض يتحدث هنا عن احتمالية نقل الجثة للمكان القريب أثناء عملية البحث!
ربما تكشف نتائج التحقيق عن التقصير في الجانب الوقائي، حين لم تراع الطالبة تعليمات السلامة بتجنب السير وحيدة في وقت متأخر بالليل، وعدم مشاركة الجدول اليومي مع العائلة والأصدقاء، إلا أن أكثر مسألة مازالت مثيرة ومحط نقاش واستغراب وكان بإمكانها توفير هذه الجهود الطائلة وما استغرقته من وقت لو كانت هناك كاميرات تغطي مختلف مناطق الحرم الجامعي، على الرغم مما تتميز به جامعة برنستون في انتشار مبانيها وكأنها قرية تعليمية تجمع الأشجار الكثيفة والمباني السكنية المجاورة والبحيرة الطويلة المحاذية!
ولكن هذه مبررات غير مقبولة مع إمبراطورية تعليمية مثل جامعة برنستون التي لا يعوزها التمويل ولا تفتقر إلى البنية التحتية التقنية، وقد أعلنت أن لديها نظام مراقبة بالكاميرات لمرافق الجامعة، باستثناء تلك التي قد تعتبر مراقبتها انتهاكا للخصوصية وفقا لسياسة استخدام تكنولوجيا المعلومات، فهل تدفع هذه الحادثة المأساوية الجامعة وغيرها من الكيانات إلى إعادة النظر في سياسة الأمان التي تعتمدها وعدم المبالغة في الخوف من خدش الخصوصية؟!
كنت قد كتبت هذه المقالة في وقت سابق، وترددت في نشرها، حتى رأيت استجابة الجامعة للمخاوف والتساؤلات التي أثرتها ضمن تحديثات أخيرة مهمة وجهها نائب رئيس الجامعة اليوم، والتي تبين الاستجابة الجيدة من إدارة الجامعة، حيث تم الإعلان عن التخطيط لتغيير إجراءات الأمان في المباني السكنية، مع حصر الوصول إليها بالمعنيين فقط، إضافة إلى تحسين إضاءة الحرم الجامعي وتوسيع برنامج كاميرات الأمان، للاستجابة بشكل أكبر للمخاوف التي زادت بعد الحادثة، وهكذا لم تتبع الجامعة سياسة دفن الرأس في الرمال، وأدركت حاجتها إلى مراجعة لسياستها الأمنية حتى تحول دون تكرار مثل هذه الحادثة مجددا أو على الأقل أن تسرع من اكتشافها ومن يقف وراءها؟
[email protected]