كانت العرب قديما تعتقد أن من ذاع صيته وعلا اسمه منذ طفولته يموت قبل سن الأربعين، وكان الآباء لا يسعدون كثيرا بنبوغ أبنائهم منذ الصغر خشية موتهم في سن مبكرة، وكان لديهم مثل في ذلك يقول: «من سطع نجمه قرب أجله».
فهذا أبوتمام صال وجال بقوة شعره وكلماته، وحسن ألفاظه ومعانيه وهو في سن مبكرة، وبلغ به من الفطنة والذكاء أنه دائما ما كان يتملص من غضب الخليفة أو الأمير ببيت يردف قبح البيت الذي قبله، فينقلب الذم مدحا، والخطأ صوابا، والقبح جمالا، ومما نقل عنه في هذا الشأن واشتهر به وهو في سن مبكرة أنه امتدح الخليفة المعتصم بقصيدة جاء فيها:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
وإذ بوزير الخليفة «يعقوب الكندي» يقاطعه بعد هذا البيت، وقال بتملق واضح: «إن الأمير فوق ما وصفت، ولم تزد على أن شبهته بأجلاف العرب، فمن هؤلاء الذين ذكرتهم؟ وما قدرهم؟»
ثم أطرق أبوتمام قليلا، فحضره بيتان ارتجلهما، على نفس الوزن والقافية:
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلا من المشكاة والنبراس
وهذا تشبيه ضمني بديع، حيث أشار إلى أن هؤلاء المشهورين ذكرتهم العرب في أمثالها المشهورة، ومن ذلك أيضا قوله تعالى (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة).. فالله سبحانه قد اختار المشكاة لكي يضرب بها المثل على نوره تعالى وهو أبلغ من أن يوصف.. حينها أعجب الخليفة بهذين البيتين، فهمس في أذن الوزير: أي شيء يطلبه أعطه إياه فإنه لا يعيش أكثر من أربعين عاما، وقد حضر هذه الحادثة أبا يوسف البكري (وكان فيلسوفا) فقال بعدما سمع البيتين: هذا الفتى يموت قريبا من فرط ذكائه وفطنته، فمات وقد نيف على الأربعين عاما!
الغريب في الأمر أن العرب ليسوا وحدهم من يعتقدون بهذا المعتقد، بل إن هناك أمما أخرى تصل لدرجة «الجزم» فيما يعتقده أسلافنا، وهناك أمثال عالمية كثيرة تصب في نفس الاتجاه، فالصينيون يقولون «النفوس العبقرية تموت مبكرة» والمكسيكيون يقولون «الذكي الذي ينمو سريعا يبكي في شيخوخته»، والتشيكيون يقولون «الورود تذبل قبل أوانها».
وجميع ما ذكر من أمثال تساندها حقيقتان: الأولى (ظاهرية) وهي أن معظم العظماء ممن اتضح نبوغهم في طفولتهم ماتوا في سن مبكرة، من سيبويه وابن المقفع وأبي فراس الحمداني إلى موزارت وتورشيللي وفان جوخ!
الثانية (علمية) وهو ما اطلعت عليه قبل أيام عن بحث منشور في جامعة «ميتشغان»عام 2004، مفاده أن النمو السريع في فترة المراهقة يقصر العمر، وقد اكتشف الباحث ريتشارد ميلر أن الأطفال الذين ينمون بسرعة وبحجم كبير في سن البلوغ يموتون أسرع ممن ينمون ببطء ورشاقة.
وأخيرا نقول: «الأعمار بيد الله سبحانه».
A_F9966@