إعداد: أحمد صابر
«الحب ابتداء بلا نهاية، وجماله يتمثل بعجزنا عن الإحاطة بكامل وصفه، وقوته تكمن بضعفنا أمامه، وسر بقائه جهلنا بالتحكم فيه، وسر كماله لم نكتشف كنهه إلى اليوم، ولكنه كخيوط الشمس الدافئة التي تخترق كل جزء فينا»، بهذه الكلمات المعبرة والمطعمة بفيض من المشاعر المتأججة، قدم الكاتب د.حسن جمال عاشور لإصداره المتميز «ذاكرة قلم»، حيث استطاع ان يلتقط صورة قلمية شديدة الوضوح، ويرسم لوحة أدبية امتزج فيها الحب الصادق والوعد السراب مع الذكريات والشوق والحنين، ليجمع ذلك كله في فرائد من الأشعار والخواطر الأدبية، فتُنقل عبر ثلاثية الزمان بماضيه وحاضره ومستقبله، وسجل بلهفة العاشق وبراءة الطفل، خلجاته النفسية المختلفة من فرح وحزن، بأنامل فياضة أبدعت فأجادت التصوير وأحسنت التعبير ولامست شغاف القلوب.
الحب المثالي
وفي بداية الكتاب الذي يقع في 236 صفحة من القطع المتوسط، يتحدث المؤلف عن الحب المثالي، موضحا ان «عمره قصير كعرائس العيد وفيه يموت السحر وتصبح الأحاسيس كوجبات المستشفى عليك أن تتناولها فقط لتتعافى»، أما أجمل شيء في الحب فهو «الإحساس الدافئ او الوجع القاتل، الذي يجعلك تقف على عتبة أعلى من الباقين، فكل عاشق يظن انه ارفع من الآخر، كتدرج حقول الأرز على سفح جبل»، وينتقل بعدها الى وصف اللوعة والاشتياق للأحبة، مخاطبا محبوبته بروح العاشقين، سائلا اياها اين انت؟ «فلو كنت بهذا الكون لعبرت الأوطان باحثا عنك، ولو اعرف كيف أجدك بأحلامي لبحثت عنك بكل منام، ولو قدر لي لأتيتك طائرا، ولو أستطيع لحبستك بين ذراعي»، طالبا منها ان تعلمه كيف يهزم الوقت، ويتزود بالصبر لكي يقتل اليأس ويقهر الفراق.
من ذروة الرومانسية يمتطي الكاتب صهوة الكلمات، ويتخيل حوارا عذبا بين العاشقين والقمر، مبينا ان احدهم تدرب على اجمل الكلام ولبس أحلى الثياب ليقف مناجيا القمر، ويكتشف ان هناك آلاف من الساهرين على شاكلته، ليصارحه القمر بالحقيقة المرة «انا سراج العاشقين وملتقى المحبين وأنيس الوالهين وأحبائي كثيرون، وكلهم يظن انني معه واليه فقط»، ثم يأخذنا الى عالم «الأمومة» حيث الحنان والعطف والعطاء بدون مقابل، واصفا «الام» بالكون الدافئ والفردوس المتنقل، متذكرا صباه ولحظات لهوه في احضان امه، مؤكدا انها جنة فوق كل الجنات.
من البشر الى الأماكن وفي احدى جولات الحنين الى الماضي، تحط طائرة عاشور حيث يهوى الفؤاد، في العاصمة السورية «دمشق»، مستذكرا لحظات وايام جميلة قضاها في «قاسيون» و«معلولا» ووسط المتاحف والمعابد الأثرية وبين النواعير وحقول القمح والزهور، باعثا لها تحية عاشق «سلامي لروحي من جسد الغربة.. سلاما دمشق».
ذكريات ورثاء
وفي تغير مفاجئ ينبئ عن قدرته على التعبير عن المشاعر المختلفة من الحب والفرح الى الحزن والغضب، وتحت عنوان «رثاء قلم»، نجده يرثي الضمير الإنساني الذي بات كرخص الأقلام، فيما الحبر أرخص من الماء، حتى بات الأمي شاعرا، وأصبحت الكتابة حرفة كل مداح للسلطة وسمي التغيير بالماسونية والتغريب والحرب ضد الأوطان، متسائلا اين الكتاب؟ اين القراء؟
وبينما تشده الذكريات الى الطفولة يرسم بقلمه صورة ثلاثية الأبعاد عن «البراءة» والأحلام البسيطة، قائلا «تخيلنا عصينا سيوفا، وامتطينا خيولا من الهواء، فكم قصرا بنينا في زاوية الدار، وكم حياة فارس عشنا، كنت بطلا باسلا، سافرنا الى العالم، مع اننا لم نخرج من الدار، قفزنا حتى قبلنا النجوم، وكبرنا فصار الأخ بعيدا والقريب غريبا واصبحنا جزءا من مسرحية الحياة، لا نعلم متى الرحيل».
سر الروح
وحين تسمو العاطفة عند الكاتب، يغوص في اعماق النفس، ويرتقي بالإحساس، ليكشف للقارئ «سر الروح»، موضحا انها احد أسرار الكون وعنصر جوهري يحرك هذا البنيان الصغير الذي خرق الآفاق وتحدى المستحيل، فهي وقود الخيال، وحية بأمر القدر لخدمة الجسد، ولكي ترتقي لأسمى معانيها عليها ان تعشق وتحب، لافتا الى ان الروح الحية طاقة متجددة كالشمس لا تتوقف، تتأجج جذوتها حسب العامل الذي يفجر مكامنها، فترى بها براءة الأطفال، طالبا منا ان نبحث عنها داخلنا لنعيش، ثم يتذكر الكاتب جده الراحل، مخاطبا روحه بنبرة يملؤها الحزن، «ما زلت عند رجوعي للبيت أمر على غرفتك لأسلم عليك وانسى انك رحلت، فبعدك لم يعد البيت ذلك البيت، فيا ليتنا كنا الراحلين وبقيت انت، وكم يود ابني بعد ان حدثته عنك ان يقابلك في الحال، فأخبرته انك تسمعه من عالم آخر.. فادع له بحسن الخاتمة والأعمال».
العشق والليل
ويختتم عاشور «ذاكرة قلم» بمجموعة من الخواطر الأدبية عن العشق والاشتياق، ففي «فطام روح» يقول، «لا تفطم الروح عن الجسد حتى تعشق، ولا يسكن القلب وطنا حتى يعشق، وبدون العشق ما نحن الا معجزة لأصنام تتحرك، فهو يبني الجسور ويملأ فراغات الروح، ويقتل ديكتاتورية الجسد»، ثم يصور الليل ولحظات السكون وما قبل النوم، مبينا ان الوسادة هي اكبر منديل يحتضن دموع القلوب، حيث تمتص حرارة اوجاعنا وجمر لوعتنا لتحولها الى عناق دافئ يواسي اشتياقنا، وفي الليل نتقاسم اوجاعنا وخواطرنا وذكريات حاضرة في اذهاننا، فتختفي الضحكات وتنهمر الدموع، ويسجن الواقع وينطلق الخيال، وبروح الأبوة الصادقة ومشاعر الوالدين الجياشة يبعث برسالة الى ولده، قائلا له «يا ريحانة قلبي وسلوة عمري، يا من بضحكته انسى ثقل الهموم وقسوة الأيام، أحببتك منذ اول يوم فيك الروح اندست، وعشقتك روحا قبل ان تكون جسدا، أينما كنت أنا وتكون انت، اعلم انني دائما لك ومعك، فأنا المارد الذي يأتيك متى تشاء، وانا ضيفك بالأحلام».
وفي النهاية يمكننا القول ان المؤلف استطاع ان يختزل سنوات من الحب والحنين، ويفجر مكامن الشوق بأسلوب جذاب بليغ في «ذاكرة قلم»، والذي يعد عملا أدبيا رصينا جديرا بالقراءة والاهتمام، ويستطيع القارئ ان يجد فيه ما يخاطب وجدانه، وكأنه قد كتب له خصيصا، فمن يبدأ في قراءته لا يستطيع مقاومة سحره حتى ينتهي منه بالكامل.
«قوالب الكلمات»
حاولت
سكب مشاعري بقوالب الكلمات
فعجزت عن شرح ما فيك من صفات
وبحثت عن لغة حروفها بالمئات
ودرست فلسفة الحضارات.. وفتشت بين اللغات
فلما أجد ما يوفي مشاعري اليك
ولم اجد ما يستوعب وصف ما فيك من عذب الصفات
وكل ما استطيع قوله
ان جمالك يصنع المعجزات
وسحر قبلك من اسرار الآيات
ونافذتي لجمال الكون تكون من عينيك
فوجودك معي هو قلبي الذي يعطيني الحياة
فحياتي بدأت يوم لقاك.