وعلى صعيد مجتمعنا اليوم، فإننا أصبحنا نعيش ونرى للأسف ما لا يرى رغما عنا، من أزمة المعنى، هذه الأزمة التي جلبت معها أزمات أخلاقية كثيرة ومختلفة، وأعتقد أن السبب الأكبر في أزمة الأخلاق هو القيم التي تجعل التصرفات أخلاقية، والجدل الدائر حول هذه القيم أو مصادرها، والأنكى من ذلك، تبديل أماكن القيم، واعتبار الحسن قبيحا، والقبيح حسنا، والتبادل بين المفيد والضار، والحق والباطل، إلى أن اختلط سوء الخلق بسوء إدارة حياتنا اليومية فأصبحنا نشاهد منغصات للحياة وأمورا مكروهة لم نعتد عليها أبدا.
ذلك وبالإضافة لابتعاد الفرد عن المصادر التي تدعوه إلى الاستقامة وتحدد له سبل الرقي الفكري والتصرف الأخلاقي، وما تلك الأزمة إلا نتاج حياتنا اليومية، لا صدق ولا تقدير ولا احترام، ولا إخلاص ولا مجال إلا للأنا المنبوذة التي تجعلك تعيش يومك وكأنه دهر! صنوف شتى من البشر يتقلبون بأخلاقهم كما يتقلب من هجره النوم، اليوم حال وغدا أحوال.
فالأخلاق الحسنة يفترض أن تكون هي أعظم ما يعتز به مجتمعنا وأفراده وتجعله يمتاز عن غيره من المجتمعات، فهي تعكس ثقافتنا وحضارتنا ورقينا، وبقدر ما تعلو أخلاق مجتمعنا تعلو حضارته وتلفت الأنظار حوله، وبقدر ما تنحط أخلاقه وتضيع قيمه تنحط حضارته وتذهب هيبته، فكم وكم سادت أمة ولو كانت كافرة وعلت على غيرها بتمسكها بمحاسن الأخلاق، وكم وكم ذلت أمة ولو كانت مسلمة وضاعت وقهرت بتضييعها لتلك الأخلاق، يقول شوقي رحمه الله:
إنّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت
فإنْ همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا
ومن بعض أسباب تلك الأزمة الأخلاقية هي الجهل بمنزلة الأخلاق من دين الله تعالى وتصور البعض أنها فضلا منه فإن تحلى بالأخلاق فبها ونعمت، وإن لم يكن فذلك لا يُنقصه شيئا في موازين الكمال، ويترتب على ذلك هو انعدام الشعور بأن الحساب سيكون على الأخلاق كما هو على العقائد والالتزام بالشرائع وأن التقصير فيها نقص في الإيمان يجازى عليها الفرد، هذا وبخلاف المتكبرين المتفيهقين وهم من تسيطر عليهم حالة الكبر، فيتعالون على خلق الله ويظنون أنهم أعلى من الناس وأفضل منهم، والذين وصفهم رسول الله ببعض صفاتهم حين سئل عنهم بأنهم المتكبرون، إذ من أبرز صفات الشخص منهم التعاظم في كلامه، والارتفاع على الناس في الحديث، التمادي بالوقاحة والخزي وعدم الاحترام، وازدراؤه للغير، وتلك علة خلقية تشعر بضعف نفسية المتفيهق، ولذلك يكون بعيدا في الدنيا عن قلوب الناس، مقرونا في الآخرة بمن أبغضهم رسول الله حيث قال: إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم خلقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، وهم الذين يعيشون أزمة حقيقية سببها ضعف نفوسهم ومرض قلوبهم، والذين معظمهم أصابوا مجتمعنا في صميم أخلاقه.
لذلك لابد بأن يستشعر الإنسان بأهمية الأخلاق لدينه ودنياه، فالبعض يكون ملتزما بدينه لكنه لم يتفقه فيه، ويتغافل عن الجانب الفقهي من ديننا الحنيف والذي ينظم عالم الإنسان الخارجي، والجانب الأخلاقي والذي ينظم عالمه الداخلي، فالأخلاق غاية، والفقه وسيلة، ولولا الوسيلة لما تحققت الغاية، ولولا الغاية لما كانت للوسيلة معنى!