قد يُستخف بالفقير ويُزدرى به ولا يُحسب له حساب عند كثير من الناس في زماننا هذا، ولربما كان هذا الفقير عند الله تعالى أفضل بكثير ممن استخف به، مصداقا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبره» (رواه الترمذي).
لقد أصبح الفقر عندنا عيبا، والغنى سترا وغطاء لكل عيب، وهذه من أعاجيب الزمان، إلا أنه واقع الحال، فلا قيمة ولا وجاهة لمن لا يملك المال الكثير، بل إن الجاه والوجاهة والاحترام والتوقير والتبجيل لمن يملك المال ولا أعمم، يقول ابن قتيبة الدينوري في كتابه عيون الأخبار: ليس من خلة يمدح بها الغني إلا ذم بها الفقير، فإن كان الفقير شجاعا قيل أهوج، وإن كان وقورا قيل بليد، وإن كان لسنا قيل مهذار، وإن كان زميتا (رزينا ووقورا) قيل عيي، كنحو قول الشاعر:
يغطي عيوب المرء كثرة ماله
يصدق فيما قال وهو كذوب
ويزري بعقل المرء قلة ماله
يحمقه الأقوام وهو لبيب
وكانت العرب تقول: القبر ولا الفقر، وهذا في مجال السعي لكسب الرزق، أما الغنى فهو غنى النفس والفقر فقر النفس والأخلاق، ولم يفتقر المرء ويغتني إلا بقدر الله تعالى، فقد فرغ من مقادير الخلق قبل خلق السموات والأرض، وقبل خلق الخلق بخمسين ألف سنة، فلا عيب في الفقر، فالله عز وجل فاضل بين عباده في الأرزاق لحكمة اقتضاها فقال في محكم كتابه (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ـ النحل: 71)، وقال عز من قائل: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ـ سبأ: 36) وليس المال للتفاضل عند الله تعالى، وإنما يتفاضل الناس بالتقوى والعمل الصالح، وفي زماننا هذا تغيرت المفاهيم والقيم، وأصبحت المادة هي الشغل الشاغل والهم الأكبر للناس، سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر الغفاري رضي الله عنه: يا أباذر، أترى كثرة المال هو الغنى، فقال أبوذر: نعم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: فترى قلة المال هو الفقر، قال: نعم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، (رواه ابن حبان في صحيحه) والحقيقة أنه لو جمع المرء ما جمعه قارون ولم يكن قانعا بما قسمه الله له فهو الفقير بعينه، ولن يكون مطمئنا ولا مرتاح البال ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:
تقنع بما يكفيك واستعمل الرضا
فإنك لا تدري أتصبح أو تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنما
يكون الغنى والفقر من قبل النفس
وكان الرجل الصالح فضيل بن عياض يقول: إنما الفقر والغنى بعد العرض على الله تعالى، فاللهم لا تقبضنا إلا وأنت راض عنا.. ودمتم سالمين.